
ولدتُ وترعرعتُ في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا بجنوب لبنان، أنشئ المخيم بعد النكبة عام 1948، وهو واحد من اثني عشر مخيمًا للاجئين الفلسطينيين في البلاد وأكبرها، ولكنني أشعر بأنه صغير جدًا، فحواجزه الإسمنتية تحجب أنظارنا عن "العالم الخارجي".
حالي كحال ملايين اللاجئين حول العالم، لم أختر اللجوء أو صفة اللاجئ، ففي عام 1948، أُجبر أجدادي على الخروج من دير الأسد في قضاء عكا إلى وجهةٍ غير محدّدة. فقد كان أبي طفلًا وأمي مجرّد رضيعة. حينها، قالت جدّة أبي لابنها جدّي، "ثلاثة أيام، بتروق الأوضاع وبترجعوا". فما لتلك الأيام الثلاثة وقد امتدّت سبعة وسبعين عامًا؟
يعاني اللاجئ الفلسطيني من أزمات هوية التي تُشكّلها الصدمات المتتالية التي تجثم على صدره ويبرز أولها من التنشئة. فمنذ نعومة أظافري أعرف أنني فلسطيني لكن لم أفهم ما يعنيه ذلك فعليًا، فلم أرَ فلسطين يومًا ولم أطأ أرضها ولم ألعب في حواريها. تعمّق جرحي عندما أدركتُ أنّ كل "لم" في حديثي ستتحوّل إلى "لن". مَن يصبح اللاجئ الذي ليس له وطن يعود إليه؟
مَن يصبح اللاجئ الذي ليس له وطن يعود إليه؟
درستُ التمريض بمحض الصدفة، فكنت أعلم أنني أودّ مساعدة الناس الذين يحتاجون للرعاية الطبية. ولكن في الواقع لا يمكنني أن أمارس الطب في لبنان كلاجئ. فعندما انضممتُ إلى منظمة أطباء بلا حدود عام 2011، زادت مهنتي إنسانيةً، لم أتوقّع يومًا أن أقول بأنني أعمل في المجال الإنساني منذ أربعة عشر عامًا، لكنّ الأيام مرّت بسرعة في خدمة الأشخاص الأكثر حاجة للرعاية الصحية ومن تتقطّع بهم السبل للوصول إليها.
عملتُ في البداية مع أطباء بلا حدود داخل مخيم عين الحلوة لسنواتٍ تغيّرت خلالها أنشطة المنظمة. فمخيم عين الحلوة، شأنه شأن المخيمات الفلسطينية الأخرى يستقبل اللاجئين السوريين الذين فرّوا من الحرب التي اندلعت عام 2011. ثم انتقلتُ عام 2015 إلى مشروع المنظمة في جنوب بيروت عندما كانت تدير عيادتين في مخيمَي شاتيلا وبرج البراجنة للاجئين الفلسطينيين. أما في عام 2023، فانتقلتُ إلى مشروع المنظمة ببيروت، حيث استحدثنا عيادة تُعنى بصحة العاملات والعمال المهاجرين الذين يصعب عليهم الوصول إلى الرعاية الصحية.
في عامَي 2017 و2023، اندلعت اشتباكات مسلّحة عدة في مخيم عين الحلوة، وأطلقت المنظمة خلال العامين استجابة طارئة شاركت بها لكي أدعم مجتمعي. شاركتُ كذلك في حملات تلقيح طارئة لدعم جهود وزارة الصحة، كتلقيح الأطفال ضدّ الحصبة في عام 2017 وتلقيح السكان ضدّ كوفيد-19 في عام 2020 وضدّ الكوليرا في عام 2022.
شهدنا كذلك عام 2020 انفجار مرفأ بيروت، والذي شكّل صدمة أخرى في البلاد وقد هزّني تمامًا كما هزّ المدينة، شملت الاستجابة الطارئة لأطباء بلا حدود توفير الرعاية الصحية الأولية وتضميد الجروح ورعاية الأمراض غير السارية مع تأمين أدويتها، إلى جانب توفير خدمات الصحة النفسية والتبرّع بالمياه النظيفة ومياه الشرب ومجموعات مواد النظافة الصحية. في تلك اللحظة، لم أعد مجرّد لاجئ يدعم اللاجئين.
في تلك اللحظة، لم أعد مجرّد لاجئ يدعم اللاجئين.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 2024، تصاعدت الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان، ما أثار صدمات جديدة عدة لدى الناس أو أيقظها، ما دعا إلى استجابة طارئة مجددًا، لكنّ هذه الاستجابة لم تكن كسابقاتها فأقلّ ما يُقال عنها أنّها مهولة، وذلك لتتماشى مع هول الحرب الدامية. فقد انتقلت أطباء بلا حدود من تسيير فريق طبي متنقل واحد إلى اثنين وعشرين فريقًا في جميع أنحاء لبنان وبسرعة قياسية، عملنا جاهدين لتوفير الرعاية الصحية الأولية والأدوية للنازحين حيثما تواجدوا في الملاجئ أو الشقق المكتظة أو حتى في العراء.
دامت الاستجابة الطارئة الأخيرة هذه طوال شهرين، لكنّ الحرب لم تتوقّف مع إعلان وقف إطلاق النار. فلا زلنا نشهد القصف الإسرائيلي في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية ولا زالت القوات الإسرائيلية متواجدة على الأراضي اللبنانية وما زلنا نعمل لدعم النازحين الذين لم يجدوا منازل أو حتى قرى يعودون إليها. كم يؤلمني أن يعاني لبنان من حرب إسرائيلية تخطف الأرواح والمشاعر والذكريات تمامًا كما حصل ويحصل في فلسطين.
قد لا أعلم مَن أنا بالنسبة للبنان، لكنّني أدرك تمامًا ما يعنيه لبنان لي.
قد لا أعلم مَن أنا بالنسبة للبنان، لكنّني أدرك تمامًا ما يعنيه لبنان لي. فبعد 39 عامًا أمضيتها هنا، لم يَعُد لبنان مجرد مكان يشبه الوطن، بل أصبح وطنًا أغنّي له وأشعر بالانتماء إليه والولاء له. لطالما سألني أفراد عائلتي الذين هاجروا من لبنان لماذا لا أهاجر كما فعلوا، فأجيبهم دائمًا بأن هذا البلد يحتاجني تمامًا كما أحتاجه. رسالتي هي خدمة المجتمع اللبناني بما يشمل اللبنانيين والمهاجرين واللاجئين فلسطينيين كانوا أم سوريين.
أربّي ابني البالغ من العمر سبع سنوات على أنّه مزدوج الجنسية: فلسطيني من جانب أبيه ولبناني من جانب أمّه. لكنّ الواقع المرير أن ابني فاقد للجنسيتين، إذ لا يمكن أن يحصل على جنسية أمه. مهما حاولتُ أن أحميه من الصدمات التي تتوارثها الأجيال الفلسطينية فلا مهرب منها. لكننا نتأقلم كي ننتمي ونثابر فنصل.
في اليوم العالمي للاجئين أقول: اسمي محمد صنع الله، وأنا زوج وأب وممرض وعامل إنساني. لكنّني أنا ما عليه اليوم لأنّني – وبالدرجة الأولى – لاجئ.