Skip to main content
Yemen Visit Joanne Lui

اليمن: "إلى لقاء آخر..."

الحرب في غزة: اطّلع على استجابتنا
اقرأ المزيد

نظرت إلينا سيدة جالسة على حافة السرير وقد بان القلق في عينيها عند دخولنا جناح التغذية في مستشفى الأطفال والولادة، فليس من المعتاد أن يرافق الغرباء أفراد الطاقم الطبي في هذا الوقت من النهار. ابتسمتُ لأطمئنها عندما لاحظت يديها تحميان الرضيع الراقد بجانبها وكأن أحداً ما يمكن أن يؤذيه. كان يتنفس بسرعة مبالغة وبدت معالم ألم على وجهه، فطلبت إذن الوالدة لفحصه ولاحظت على الفور ارتياحها عندما تكلمت العربية. أخبرتها أننا من منظمة أطباء بلا حدود وأننا نزور مدينة إب اليمنية لتقييم الوضع الصحي ومعرفة إن كان بإمكاننا تقديم الدعم للمرافق الصحية التي تكافح للعمل تحت الحصار والقصف والحرب المستعرة في اليمن.

تابع مدير المستشفى شرح الوضع لزملائي فيما كنت أتحدث إلى السيدة التي أخبرتني أنها من قرية صغيرة تبعد حوالي ساعتين عن إب. أخبرتني الوالدة القلقة أن رضيعها الذي يبلغ من العمر خمسة أشهر قد عانى من إسهال وإقياء شديدين دفعاها ووالده لإحضاره إلى المستشفى. قمت بفحص الرضيع وأخبرني طبيب الأطفال أن حالة التجفاف التي كان فيها عند قبوله في المستشفى البارحة قد تحسنت بعد يوم من العلاج. ابتسمت عينا الأم عندما سمعت الأخبار المطمئنة للحظة قبل أن يستحوذ عليها القلق من جديد، وعندما سألت عن السبب، أخبرتني أن الرحلة من قريتهم كلفت حوالي خمسة عشر ألف ريـال يمني (حوالي 75 دولار) وأن رحلة العودة ستكلف مبلغاً مماثلاً. وهذا رقمٌ لا يمكن للكثيرين في اليمن اليوم تحمله وسيترك العائلة غارقة في الدين لفترة طويلة.

وخلال زيارتنا لإحدى المدارس التي تؤوي النازحين في إب، التقينا بالعديد من العائلات التي انتقلت إلى المدينة من أماكن تحتدم فيها المعارك ويعاني سكانها من القصف الشديد. قدم العديد منهم من تعز والضالع بينما قام آخرون بالرحلة الطويلة من صنعاء وحتى من صعدة في الشمال.

التف حولنا حوالي عشرون رجلاً والعديد من الصبيان الفضوليين الذين عادوا كلما حاول الرجال إبعادهم من حولنا لنتمكن من الحديث عن الأمور الجدية. معظم الأطفال وقفوا بجانب آبائهم وإخوتهم الكبار عدا طفل في الخامسة من عمره وقف بجانبي وأمسك قميصي بيده الصغيرة. حاول أحد الرجال إبعاده ولكنه توقف حين لاحظ يدي على كتف الطفل. لم أتمكن بعدها من متابعة الحديث بتركيز وأنا أفكر بالظروف اللاإنسانية التي يمر بها أطفال اليمن اليوم.

فبينما يستطيع أي كان في الغرب أن يحصل على دعم نفسي مكثف عند التعرض لحادث مسبب للصدمة كحريق أو سرقة أو وفاة قريب، يبقى أطفال اليمن اليوم الذين عاشوا الحرب بطائراتها ومعاركها وعانوا من عذاب النزوح والحرمان من الحاجات الأساسية والرعاية الطبية والدراسة وحتى الطعام، فيما عائلاتهم تكافح للبقاء على قيد الحياة في أصعب الظروف. تلمست شعر الصبي الأشعث محاولاً أن أوصل إليه بعض الدفء والتعاطف الذي قلّ ما تسمح ظروف الحرب اللاإنسانية بمنحه أو الحصول عليه.

هذه زيارتي الثانية لليمن خلال خمس سنوات. بعض الأشياء لم تتغير منذ صيف 2011، لطف اليمنيين وحفاوتهم مثلاً وكذلك انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة متكررة، لكن الكثير من الأشياء تغيرت، ومعظمها للأسوأ. فاليوم نرى السيارات تصطف فيس أرتال طويلة عند محطات الوقود، فيما ازداد عدد نقاط التفتيش على طريقنا من صنعاء، أما هدوء ليالي اليمن فقد أضحى صخباً يعج بأصوات القصف الليلي الذي تشنه طائرات التحالف وضجيج مضادات الطيران.

أهم ما تغير بنظري هو انقلاب الشعور العام بالتفاؤل رغم الصعوبات إلى يأس وخوف من المستقبل ارتسما في عيون كل من قابلتهم. الخوف الذي يشعر به من تحدثت إليهم مبرر، فاليمنيون يمرون اليوم بحرب هي واحدة من أسوأ النزاعات المسلحة التي رأيناها في أطباء بلا حدود رغم خبرتنا الواسعة في العمل الطبي الإنساني في نزاعات عديدة.

أخذتني أفكاري بعيداً إلى أن أرجعني صوت زميلي يقول لأحد الرجال مشيراً إلي: "تحدث إلى الطبيب". فتقدم باتجاهي رجل طويل القامة ارتسمت على وجهه ابتسامة متعبة ويرتدي المعوز اليمني التقليدي وقميصاً قديماً. صافحني وطلب مني النصيحة بعد أن أخبرني التفاصيل حول مرضه القلبي وشرح لي كيف ساءت الأعراض منذ قومه إلى إب. ابتسم عندما سألته لم تأخر بالذهاب إلى مستشفى الثورة الحكومي وهو واحد من أكبر المستشفيات في اليمن، فأخبرني أنه لا يملك المال الكافي للدواء حتى لو استقبله المستشفى دون رسوم.

لم يطل حديثنا إذ سرعان ما تحول الجميع إلى موضوع الغذاء، أو بالأحرى نقصه. فقد حظي النازحون في المدارس بالقليل من الطعام خلال شهر رمضان من جيرانهم الذين شاركوهم إفطاراتهم، لكن الكثير من ذلك توقف مع نهاية رمضان منذ عدة أيام. لم يحصل النازحون في المدارس التي زرناها على طعام من المنظمات الدولية المختصة ولا يملكون ثمن إطعام عائلاتهم، وسيرى أطفال اليمن الذين عانوا لعقود من نقص التغذية تدهوراً أكبر ما لم يستطع العالم تقديم الغذاء والدواء لهم بالرغم من الحصار وانتشار المقاتلين والقصف المستمر الذي يجعل هذا الأمر غايةً في الصعوبة.

حدثنا مدير مستشفى الثورة عن الخدمات التي لا تزال قائمة أثناء جولتنا في ممرات غرفة الطوارئ. المدير طبيب قدير ومحترم من قبل العاملين والمرضى على حد سواء وقد استطاع خلال فترة إدارته إبقاء المستشفى على درجة عالية من الجاهزية رغم الحرب والغلاء ونقص الميزانية.

أخبرني أن قسماً هائلاً من ميزانيته المتواضعة أصلاً يدفع اليوم لإبقاء مولدات الكهرباء الضرورية للمعدات جارية على مدار الساعة باستخدام الوقود الذي نقص بسبب الحصار وارتفعت أسعاره في السوق السوداء. وبينما تابعنا سيرنا في ممرات المستشفى، انحنى والتقط كيساً بلاستيكياً مرمياً على الأرض، كأني أراه يقول فلتكمل الحرب كما تشاء، ولكن مستشفاي لن يكون قذراً حتى لو اضطررت لتنظيفه بنفسي. أشار لي عندما دخلنا إلى قسم الأطفال بفخر إلى الرسوم والملصقات على الجدران وقال محقاً: "يستحق الأطفال بعض السعادة حتى ولو كانوا مرضى".

حاولت في طريق العودة إلى فندقنا في إب أن أتذكر بعض الأماكن التي رأيت فيها معاناة مماثلة مدركاً أنني في إب بعيد عن المعارك المباشرة التي يعمل في ظلها زملاء كثر من أطباء بلا حدود يقومون بعمليات لجرحى الحرب ويقدمون خدمات طبية من عدن في الجنوب إلى صعدة في الشمال.

تذكرت عملي في عدد من مناطق النزاع في العالم، وتذكرت وجوه الناس الذين نقدم لهم الخدمات، اللاجئين والنازحين، الجرحى والمرضى، القلقين، المتعبين، والباحثين عن النجاة والحياة لهم ولأولادهم. ذكرني حصار اليمن بالمحاصرين في سوريا، وذكرتني أصوات القصف فيها بالقصف في بغداد، ونازحوها بنازحي الكونغو، وآباؤها وأمهاتها العاجزون عن حماية عائلاتهم وإطعامها بأمثالهم في أفغانستان.

هذه هي الحرب، تتعدد الأسباب والموت واحد سواء من القصف الجوي أو المدفعي أو من نقص الأدوية أو من عدم القدرة على دفع ثمنها أو الوصول إلى أطباء يستطيعون وصفها. أتذكر فيما أودع اليمن هذه المرة ما قاله عبد العزيز المقالح في ديوانه وضاح اليمن:

يوماً تغنى في منافينا القدر
لابد من صنعا وإن طال السفر
لابد منها حبنا اشواقها
 تدوي حوالينا إلى أين المفر؟

وأتأمل أن أزور اليمن قريباً بدون حرب أو حصار، وحتى ذلك الحين، سنتابع في أطباء بلا حدود عملنا على خدمة اليمنيين، وسنعمل على حمل أصواتهم إلى العالم حتى يعرف ما يحدث وراء عناوين الأخبار التي تتحدث فقط عن الانتصارات والانسحابات والمفاوضات.