Skip to main content
Gaza protest

غزة: محنةٌ طويلة تنتظرُ مئات الجرحى من ضحايا مسيرة العودة

الحرب في غزة: اطّلع على استجابتنا
اقرأ المزيد

قوبلت مظاهرات مسيرة العودة التي شهدتها غزّة في الأشهر الأربعة الماضية استخداما للقوة المُفرطة من قبل جيش الإسرائيلي. ولكنّ العنف لم ينتهِ على الرغم من انخفاض أعداد المُحتجّين والمُصابين، حيث نشهد كلّ أسبوعٍ وقوع المزيد من الاصابات بالأعيرة الناريّة. كانت أطباء بلا حدود في مقدمة من قدم الاستجابة الإغاثيّة من خلال توفير الرعاية الجراحية والتالية للجراحة منذ بدءِ الاحتجاجات. ويمثّل تدفّق أعدادٍ كبيرة من الجرحى الذين يعانون من إصاباتٍ في غاية الشدّة التحدي الأبرز اليوم ما يتطلّب تدخّلات طبيّة دقيقة.  

في قاعة العمليات في مستشفى الصداقة في مدينة غزة، أمضى جرّاحان من منظمة أطباء بلا حدود تسعين دقيقة في محاولة إجراء عمليةٍ جراحية لم يكن من المفترض أن تستغرق وقتاً أطول، ولكنّ ما وجداه زادَ الأمر تعقيداً. حيث كانت ذقن المريض قد تهشّمت بسبب رصاصة من الجيش الإسرائيلي، وتكسّر عظم الفكّ إضافةً إلى فقدان قطعةٍ كبيرة من اللحم.

وكانت خطّة الجرّاحَين تقضي بنقلِ عضلةٍ سليمة من الربلة (بطن الساق) لملء مكان الجرح، ولكن عندما قام جرّاحا أطباء بلا حدود، كاميل رودكس وجان ويناندس بفتح بطن الساق اكتشفا أنّ العضلة تضررت أيضاً بسبب الشظايا الصغيرة وتصلبت بفعل النسيج الذي أصيب بندوب.

لقد بلغت المشكلة التي كان الجرّاحان يحاولان حلّها مستوى شائعاً للغاية في غزّة مؤخّراً. فمنذ نهاية شهر مارس/آذار، شهدت احتجاجات "مسيرة العودة الكُبرى" سقوط أكثر من 150 فلسطينياً برصاص قوات الجيش الإسرائيلي، إضافةً إلى أكثر من 4,100 جريح. وكانت منظمة أطباء بلا حدود قد عالجت منذ بدء الاحتجاجات أكثر من 1,700 مريض كان معظمهم تقريباً مصاباً بأعيرةٍ نارية.

وكانت أغلب هذه الإصابات قد حدثت خلال 23 يوماً فقط من الأشهر الأربعة الأخيرة حيث أنّ معظم الاحتجاجات والردّ الإسرائيلي اللاحق كانت تقع يوم الجمعة من كلّ أسبوع. وما تزال منظمة أطباء بلا حدود تستقبل الضحايا مع استمرار العنف الإسرائيلي على الرغم من انخفاض وتيرته، حيث يُجرح المئات من الفلسطينيين أسبوعياً على السياج الفاصل كما يموت عددٌ منهم.

تقول ماري-إليزابيث إنغريس، رئيسة بعثة أطباء بلا حدود في غزّة: "تهيمن الكسور المفتوحة على معظم الإصابات التي نستقبلها، كما أنّ معظمها أسفل منطقة الركبة، إضافةً إلى فقدان كمية كبيرة من الأنسجة وهو ما يؤدّي إلى الإضرار بالأوردة والأعصاب أيضاً. وغالباً ما يحتاج العديد من الجرحى إلى عملياتٍ جراحيةٍ متعدّدة لإغلاق الجرح".
 

In the aftermath of May 14th
الفريق الجراحي لأطباء بلا حدود أثناء عمله في مستشفى الشفاء في قطاع غزة
Heidi Levine/Sipa Press

هذا هو هدف العمليات الجراحية التي يخضع لها المصابون في مستشفى الصداقة كما تقول الدكتورة كاميل، المتخصصة في جراحة تقويم العِظام: "هدفي هو تثبيت استقرار الجرح لكي نعرف إن كان العظم سيُشفى أم لا". تقوم الدكتورة كاميل بفحص ساق المريض، والتي ما يزال الجرح فيها مفتوحاً بعد قرابة شهرين على إصابته بطلقٍ ناري. حيث تمّ وضع مثبّتٍ خارجي لإبقاء أجزاء العظم المهشّم في مكانها، وهو عبارةٌ عن قضيبٍ معدنيّ متّصل بدبابيس مزروعة في الأجزاء الباقية من العظم بزوايا معيّنة.

تشرح الدكتورة كاميل قائلةً: "قمت بإجراء عملٍ جراحيّ لهذا المريض من قبل لإزالة شظايا العظم المتداخلة مع الجلد، وسأعمل الآن مع زميلي الجرّاح التجميلي جان للكشف عن وجود أيّ بقايا من العظم الميت قبل إغلاق الجرح". لم تكن هذه العملية الجراحية هي الأولى بالنسبة للمريض، كما لن تكون الأخيرة أيضاً، فالجراحة التقويمية اللازمة لشفاء الجرح بشكلٍ نهائيّ "صعبةٌ جدّاً" حسب الدكتورة كاميل التي تقول: "لا نملك الأدوات اللازمة للقيام بالعمل الجراحي التقويمي، كما لا يمكننا أن نُصلح العظم بينما ما يزال الجرح مفتوحاً".

هناك مخاطر كبيرة على حياة المرضى كالمريض الذي تُعالجه الدكتورة كاميل وزميلها الدكتور جان، فبعد أكثر من عشر سنوات على الحصار الإسرائيلي الذي أدّى إلى شللٍ في النظام الصحيّ، والاقتتال الفلسطيني الداخلي السياسي، أصبح من المستحيل إجراء العمليات الجراحية التخصّصية التي يحتاج إليها العديد من هؤلاء المرضى، وهو ما يرفع احتمال إصابتهم بالعجز الجسدي الدائم. 

صباح كل يوم، تتوقف مجموعة من الحافلات الصغيرة التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود أمام العيادات الخمس في قطاع غزّة وينزل منها الكثير من الشبان، والذين بالكاد يستطيعون النزول وهم يمسكون أرجلهم المثبّتة بجهاز معدني لكي تبقى مستقيمة. وحالما ينزلون، يلتقطون العكازات من الكومة المبعثرة ويتجهون إلى العيادة.

أمّا في الداخل، فينتظر المرضى دورهم للمعاينة، بينما تبدو مُثبتّات الكسور الخارجية من أسفل ملابسهم الرياضية التي تمّت خياطتها بعنايةٍ وإضافة قطعة تشبه شريط الفيلكرو اللاصق، وهو ما يسمح بخلع وارتداء السروال بسهولة دون مضايقة المسامير المثبّتة في العظم.

The "March of Return"

تقوم منظمة أطباء بلا حدود بتغيير الضمادات وتقدّم العلاج الطبيعي على مستوىً يعكس الكمية والشدّة المفاجئة للإصابات. وكانت فرق المنظمة قد أجرت منذ 30 مارس/آذار عام 2018 أكثر من 40,000 تغيير ضماد لمرضى الإصابات البالغة، كما ساعدت الأشخاص الذين يمكنهم التعافي واستمرّت بمتابعة الأشخاص الذين تحتاج إصاباتهم إلى المزيد من العمل الجراحي.

يقول رائد بورديني الذي يبلغ من العمر 24 عاماً وهو من مخيم المغازي: "لم أشعر بشيء في البداية عندما أصبت بطلقٍ ناري، وكان الأمر أشبه بصعقةً كهربائية، ثم جلستُ فجأةً ولم أستطع التحرّك. كنت أحاول أن أسحب نفسي إلى الخلف ولكنّني لم أستطع، وكنت أنزف بشدّة وأشعر بالخوف من تأثير الإصابة على ساقي لأنّ الجرح كان مفتوحاً تماماً حيث اخترقت الرصاصة ساقي من الخلف إلى الأمام".

يقوم رائد بمراجعة العيادة عدّة مرّاتٍ أسبوعياً لتغيير الضماد كما أنّ المثبّت الخارجي ما يزال موجوداً على ساقه. يقول رائد: "أشعر بألمٍ شديد، وأتناول الكثير من الأدوية مثل "ايبوبروفين" و"باراسيتامول" لكنها لا تجدي نفعاً، وأخشى أن ساقي لن تعود إلى ما كانت عليه، كما أشعر بالفزع عندما أعجز عن الوقوف وأعرف أنّ هناك مشكلةً جديّة".

دولت حميدية البالغة من العمر 33 عاماً هي واحدة من الإناث القلائل نسبياً مقارنة مع عدد الذكور المصابين، وهي تتلقّى العلاج في عيادة أطباء بلا حدود بعد إصابتها بطلقٍ ناري. تزور دولت عيادة بيت لاهيا في كرسيٍّ متحرّك، وساقها ممدودةٌ أمامها.

وتتحدّث دولت عن يوم 14 مايو/أيار الذي كان الأكثر دموية قائلةً: "كانت أوّل مرّة أقترب فيها من السياج الفاصل لأنّني أردت رؤية ما يحدث، وأحضرت معي للشبّان المحتجّين بعض الماء والعطر لإزالة آثار الغاز. تمّ نقلي بعد تعرّضي للإصابة إلى المستشفى الإندونيسي، وكانت عيناي مفتوحتان ولكنّني لم أكن أُبصر، إنّما كنت أسمع كلّ شيء. كانوا يظنون أنّني فارقت الحياة ولذلك وضعوني في مشرحة المستشفى، ولكن بعد عشر دقائق لاحظ أحد الأطباء أنّني ما زلتُ حيّة وأخبر الجميع أنّ قلبي ما زال ينبض".

تقوم دولت بزيارة عيادة أطباء بلا حدود ثلاث مرّات أسبوعياً لتغيير الضماد، وعليها أن تُبقي المثبّت الخارجي على ساقها لمدّة خمسة أشهر على الأقلّ، كما أنّها خائفةٌ من المستقبل حيث تقول: "أخشى أنّني لن أعود كالسابق، ولن أستطيع المشي أبداً".

Thumbnail
فيديو

غزة: يوم في عيادة أطباء بلا حدود


من المؤسف أن مخاوف الكثير من المرضى مثل رائد ودولت لها ما يبرّرها. وفي هذا الصدد تقول رئيسة الفريق الطبي لمنظمة أطباء بلا حدود في غزّة، باسكال مارتي: "سوف نشهد على الأرجح موجةً ثانية من عمليات بتر الأطراف، فجروح الأعيرة النارية هي من الناحية الطبية جروحٌ ملوّثة، لأنّ الرصاصة دخلت إلى الجرح، وهذا يعني أنّ هناك نسبة التهابات عالية".

تشكل الكسور المفتوحة الملتهبة من هذا النوع المعقّد خطراً على حياة المصابين، ولا يبقى أمّام الأطباء سوى خيار البتر في حال عدم إمكان إجراء الجراحة التقويمية. 

عادةً ما يتطلّب هذا النوع من الجروح الشديدة ومعدّلات الالتهاب المرتفعة إدخال المريض إلى المستشفى، ولكنّ النظام الصحيّ المتداعي في غزّة لا يستطيع استقبال هذا العدد المرتفع من المرضى. أُصيب محمد أبو غزة البالغ من العمر 25 عاماً بطلقٍ ناري في 6 أبريل/نيسان قرب رفح.

وعلى الرغم من تهشّم ركبته إلّا أنّ المستشفى قام بتخريجه أكثر من مرّة. يقول محمد: "تمّ تخريجي من المستشفى بعد 6 أيام من إصابتي لإفساح المجال للمرضى الآخرين الذين أُصيبوا في الجمعة التالية. وعُدت بعدها إلى المستشفى أكثر من مرّة وأنا أعاني من الحمّى والألم ولكنهم رفضوا إدخالي لعدم وجود أماكن شاغرة".

قامت منظمة أطباء بلا حدود بإحالة محمد إلى مستشفىً آخر حيث خضع لعملية جراحية ولكنّ الأمر نفسه تكرّر من جديد كما يقول محمد: "بقيت في المستشفى الجديد لمدّة أسبوع ولكنّهم قاموا بتخريجي لإفساح المجال للموجة الجديدة من المصابين".

تُلقي الجروح بتأثيراتها العميقة على سكّان غزّة، وترهق كاهل الشريحة الأكبر من السكّان بالنفقات المادية ومسؤوليات الرعاية في مكانٍ أدّت فيه سنوات الاحتلال الطويلة والحرب والحصار إلى انهيارٍ شبهٍ تام في الوضع الاقتصادي. حيث وصلت نسبة البطالة في الفئة العمرية بين 15-29 عاماً إلى 60 في المئة حسب إحصاءات البنك الدولي، مع العلم أنّ هذه الفئة تشكّل ثُلثي مرضى أطباء بلا حدود.

أمّا بالنسبة للعائلات، فهي إمّا فقدت مصدر رزقها أو أنّ الذين يقومون بإعالة أفراد عائلاتهم العاطلين عن العمل قد أرهقتهم الأعباء الإضافية المترتبة على رعايتهم. 

يقول محمد: "كنت أعمل أحياناً قبل الإصابة في بيع الخضار على عربةٍ في السوق وأجني مبلغاً بالكاد يكفي لشراء السجائر. أمّا الآن فأنا جالسٌ في المنزل، ولا أستطيع أن أفعل أيّ شيءٍ بنفسي حتّى أن أغتسل، وعليّ أن أطلب من عائلتي المساعدة في كلّ شيء".

يصف مريضٌ آخر، دون ذكر الاسم، كان قد أُصيب في 30 مارس/آذار كيف اضطرّ والده الموظّف الحكومي إلى استدانة مبلغ 1,500 دولارٍ أمريكي من أقاربه لدفع نفقات علاجه ويقول: "كُنت أعمل أحياناً قبل الإصابة مع أصدقائي وأقاربي في مواقع البناء، وأنا أفتقد تلك الأيام كثيراً. أمّا الآن فأنا عاجزٌ عن كسب النقود، وأقاربي في الخارج هم من يرسلون النقود لدفع نفقات علاجي".

لا تقتصر عواقب الإصابة على الناحية الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، لم تكن دولت تعمل فقط كمزيّنة شعرٍ في السنوات العشر التي سبقت إصابتها، بل كانت تقوم برعاية والدها المريض أيضاً، وتقول دولت: "أشعر بالألم العميق لأنّني لا أستطيع مساعدة والدي، وقد أصبحت بحاجةٍ للرعاية مثله الآن".

ويعاني الكثير من المرضى من العواقب النفسية نتيجة تراكم الألم الجسدي، والضائقة المالية والضغط الاجتماعي. وتُضيف دولت بنبرة إحباط: "تزداد صعوبة الوضع كلّ يوم، فأنا جالسةٌ في المنزل طوال الوقت. لقد دمّر هذا الحادث حياتي وحياة عائلتي".

In the aftermath of May 14th
مريض بصدد تلقي الرعايّة التاليّة للجراحة. حيث أنه أصيب من قبل قناص اسرائيلي خلال المظاهرات
Heidi Levine/Sipa Press

تستمرّ الاحتجاجات على الحدود كلّ نهاية أسبوع، ويستمرّ سقوط الفلسطينيين بين قتيلٍ وجريح على يد الجيش الإسرائيلي رغم انخفاض الأعداد. ولكنّ طبيعة العنف تطوّرت وتصاعدت في الأسابيع الأخيرة بعد مقتل جندي إسرائيلي في منتصف شهر يوليو/تموز، واستمرار وقوع القتلى والمصابين بين الفلسطينيين.

لقد مرّ أكثر من شهرين على الفترة التي شهدت أكبر الإصابات، وهي فترةٌ عادةً ما تكون كافيةً لالتئام الكسور العادية. أمّا بالنسبة للكثير من المصابين في غزّة فإنّ عملية التعافي لم تكن سريعةً كما يجب نظراً إلى إصاباتهم المعقّدة.

وتقول الدكتورة كاميل، المتخصصة في جراحة تقويم العظام: "يحتاج المصابون إلى خمسة أو ستّة أشهر للتعافي إن كان هناك مجالٌ للتعافي أصلاً. وينقسم مرضانا إلى ثلاث فئات تتقارب أعداد مصابي كلّ فئة بينها تقريباً: فهناك المصابون الذين سيتعافون في نهاية الأمر، والمصابون الذين سيحتاجون إلى عملياتٍ جراحيةٍ إضافية للتعافي والمصابون الذين سيحتاجون إلى عملياتٍ جراحيةٍ تقويمية تخصّصية على مدى سنوات لكي تكون لديهم فرصةٌ للتعافي".

ولكنّ هذا النوع الأخير من الجراحة ليس متوفّراً في غزّة، وهو ما يضع الكثير من المصابين في غزّة أمام احتمال فقدان أطرافهم إلى الأبد. 


 

لم أشعر بشيء في البداية عندما أصبت بطلقٍ ناري، وكان الأمر أشبه بصعقةً كهربائية، ثم جلستُ فجأةً ولم أستطع التحرّك. كنت أحاول أن أسحب نفسي إلى الخلف ولكنّني لم أستطع رائد بورديني، 24 عاماً، من مخيم المغازي

بالعودة إلى مستشفى الصداقة، نجحت كاميل وجان في اجتزاء شريحة من العضل الذي يحتاجون إليه لملء الجرح بعد لحظاتٍ عصيبة، حيث استطاعوا تطعيم الجرح بقطعةٍ من الفخذ لإغلاقه، وتنفّس الفريق الجراحي الصعداء أخيراً بعد ساعاتٍ طويلة من العمل الجراحي.

تقول كاميل: "تمثّل هذه العملية الجراحية حالة التفاؤل الذي نجهد للحفاظ عليه، مع أنّ حالة الجروح سيئةٌ لدرجة أنّنا لا نعرف ما الذي سنجده في الداخل". تأمل كاميل ألّا يُصاب المريض بأيّ التهاباتٍ لاحقة بعد إغلاق الجرح، ولكنّ المستقبل البعيد مجهولٌ تماماً بالنسبة لهذا المريض والكثيرين غيره بعد أن فقدوا عظامهم وهم يعيشون في حالةٍ من الحصار الخانق.

المقال التالي
فلسطين
تصريح 14 مايو/أيار 2018