Skip to main content
Dr Rasheed Fakhri

إعادة بناء الأمل: رحلة جرَّاح من بغداد التي مزقتها الحرب إلى شفاء الجروح في عمَّان

الحرب في غزة: اطّلع على استجابتنا
اقرأ المزيد

في أعقاب حرب مروعة في وطنه الحبيب، العراق، وجد الدكتور رشيد فخري نفسه على مفترق طرق. إما البقاء في البلد أو مغادرته.

لم يكن يعلم أن هذا الطريق مبهم المعالم سيقوده إلى خدمة أبناء بلده العراقيين لحوالي 17 عامًا، بعيدًا عن شوارع الوطن وأحيائه المألوفة. هذه هي قصة رحلته نحو المجهول مع منظمة أطباء بلا حدود، حيث كان لتفانيه في عمله وحلمه دور محوري في إعادة تشكيل حياة كثير من الأشخاص وسط فوضى "عراق ما بعد الحرب".

بداية رحلة التعافي

بدأتْ رحلتي مع منظمة أطباء بلا حدود في عام 2006، لكن التزام منظمة أطباء بلا حدود تجاه العراق يعود إلى عام 1988، حين قدمت الدعم للعراقيين بعد الحرب العراقية الإيرانية، ولاحقاً في عام 1991 خلال حرب الخليج. لكن حرب عام 2003 هي التي حفزت نشاطًا أكبر من قبل لأطباء بلا حدود في البلاد.

كان عام 2003 بداية لحقبة مضطربة اتسمت بانتشار العنف والدمار والنزوح، ما فتئ يعاود الظهور بين حين وآخر على مدى العقدين المقبلين في البلاد. وقد اضطررتُ - كحال الكثير من العراقيين - إلى مغادرة العراق بحثًا عن الأمان.

media:orange_logic_image:834f8369-93ff-416e-97f9-7ba571f346dc
مدخل مستشفى الهلال الأحمر في عمان جيث بدأت منظمة أطباء بلا حدود بتقديم خدمات الرعاية الجراحية الترميمية لجرحى الحرب العراقيين. الأردن، في سبتمبر/أيلول 2006.
Olivier Falhun

تذكُر زميلتي ماري-هيلين جوف، خلال زيارتها للعراق الآن، بعد 19 عامًا من مشاركتها الأولى، الفوضى الهائلة التي أعقبت الضربة الجوية الأولى من حرب عام 2003. كانت ماري-هيلين آنذاك قد عملت كمديرة برامج أطباء بلا حدود في الأردن لدعم فريق طبي تابع للمنظمة متمركز في بغداد في عام 2003. فتقول، "كان الإحساس بالفوضى طاغيًا بالنسبة لنا. كنا نعلم أنه كان علينا أن نفعل شيئًا، لكن ثقل الحرب وعدم اليقين بشأن ما ينتظرنا قد أصابنا بالشلل". وقد اختار فريقها المتواجد في بغداد البقاء لمساعدة جرحى الحرب والشهادة على الأحداث الجارية حينها.

استمر الوضع الأمني في التدهور. وفي الأشهر الأخيرة من عام 2005، بعد أن أنجبت زوجتي ابنتنا الأولى، أصبح من الواضح بشكل مؤلم أن البقاء في العراق لم يعد آمنًا بالنسبة لي. فالعاملون في المجال الطبي مثلي كانوا في الغالب مستهدفين. فحتى العاملون في المجال الإنساني لم يكونوا في مأمن، الأمر الذي أدى إلى مغادرة أطباء بلا حدود العراق في عام 2004. انتقلتُ إلى الأردن تاركًا أسرتي الحبيبة ورائي، وكنت لا أعلم متى سنلتقي من جديد. بعد فترة وجيزة، انضممت إلى أطباء بلا حدود كجراح في مشروعها الذي أنشئ حينها حديثًا في عمّان.

لمسة الشفاء بدأت تتجلى

في أغسطس/آب 2006، استقبلنا أول مريض عراقي، كان قد وصل إلى المستشفى في حالة هذيان وهو يصرخ "أين الفرنسيون؟" قاصدًا بذلك أطباء بلا حدود. بالنسبة لي، وعلى الرغم من الظروف، كان المريض يحمل معه رائحة الوطن، حاله كحال جميع المرضى العراقيين الذي عالجتهم من بعده.

جاءوا من جميع أنحاء العراق، من البصرة والموصل والنجف والمحافظات الأخرى، بتسهيل من نقابة الأطباء العراقية. كانت الصدمة جليّة على وجوههم. وكان من بينهم، ضحايا حروق وأطفال أيتام يعانون من إصابات خطيرة وغيرهم ممن فقد بصره. ومع استمرار تدهور الأمن في العراق، كانت شدة الجروح التي نعالجها في عمَّان تُترجم بشكل صارخ الواقع الذي يعاني منه الشعب العراقي. عانى بعضهم من بقايا انفجار السيارات المفخخة المغروسة عميقًا في أجسادهم من شظايا الإسفنج والأسلاك. فقد كنا نميز نوع السلاح ومنشأه بناءً على طبيعة الإصابات.

media:orange_logic_image:72216010-0a80-4657-87da-aa26f32de931
مريض عراقي ينظر لمدينة عمان من نافذة غرفته في مستشفى أطباء بلا حدود الجراحي. الأردن، في سبتمبر/أيلول 2006.
Olivier Falhun

عالجنا جرحى مصابين بمخلفات قنابل عنقودية استخدمت خلال الحرب في عام 2003، على الرغم من حظرها بموجب القانون الدولي. كان الأطفال الأبرياء يتعثرون بتلك المخلفات ويلتقطونها من الأرض، ظنَّا منهم أنها ألعاب لا تضر، ما كان يؤدي إلى إصابات تغير حياتهم إلى الأبد.

ومع تدفق المزيد من المرضى إلى المستشفى بسبب النزاع المتصاعد في العراق، تضافرت جهود الأطباء حتى من خارج أطباء بلا حدود من الأطباء العراقيين والأردنيين وبقية البلدان، إذ قدموا خبراتهم وتبادلوا المعدات معنا من دون طلب أي مقابل، فقد أدركوا خطورة الوضع والحاجة إلى العمل الجماعي. وفي الوقت نفسه، واصلت أطباء بلا حدود تقديم الدعم عن بعد للمستشفيات العراقية على الرغم من العديد من التحديات الخارجية والداخلية.

لمّ الشمل ورحلة الصمود

بعد أربعة أشهر من مقاساة البُعد، وصلت عائلتي إلى الأردن. في المطار، كانت الشكوك تدور في رأسي. هل ستتعرف عليَّ ابنتي؟ لكن عندما رأيتها واحتضنتها، تبددت كل تلك المخاوف، وحل محلها فرح وحب خالصان.

في المستشفى، بدا الأمر وكأنه ماراثون بلا نهاية. فقد كنت أتولى مهامًا جراحية وطبية من الصباح وحتى الليل. كانت فترة الصباح مخصصة لدعم ورعاية كل من الطاقم الطبي والمرضى، وعندما تحل الظهيرة، كنت أغطس في غرفة العمليات. وفي المساء، كنا نجتمع افتراضيًا مع نظرائنا في مقر أطباء بلا حدود الرئيسي، لنتشارك القصص والدروس والخبرات.

في بعض الأحيان، كنت أشعر بالإرهاق والإعياء إزاء الوضع المؤلم للمرضى الذين أقابلهم. لكن ما جعلني أستمر هو قوة الإيمان وقصص النجاح التي شهدتها. كان الإحساس بوجود غاية مشتركة هو ما يدفع أعضاء فريقنا إلى الاستمرار.

في المستشفى، بدا الأمر وكأنه ماراثون بلا نهاية... في بعض الأحيان، كنت أشعر بالإرهاق والإعياء إزاء الوضع المؤلم للمرضى الذين أقابلهم. الدكتور رشيد فخري، جراح في أطباء بلا حدود

وقد كان الأطفال الذين استعادوا القدرة على المشي مثل علي شهادة حية على التأثير الذي كنا نحدثه في حياة الآخرين. أصيب علي في انفجار أثناء سفره مع والدته لزيارة أقاربه. نجم عن الانفجار خسارة والدته وكلّفه كذلك ساقيه. وصل علي إلى مستشفانا بعد عامين ونصف من الحادث، ولم يكن قد تعافى بعد من الإصابة الجسدية والصدمة العاطفية. كنا أنا وعلي كلانا نشعر بالألم. بالنسبة له كان الألم مرتبطًا بجروحه، أما أنا فكان ألمي نتيجة لمشاهدة صبي صغير يفقد ساقه بفعل الحرب.

بعد أشهر من الجراحة وإعادة التأهيل، تمكّن علي أخيرًا من المشي من جديد بمساعدة أرجل اصطناعية. تُدلل رحلة علي على الأسباب التي من أجلها أصبحنا أطباء في المقام الأول – لإعادة بث روح الأمل في نفوس المرضى وتوفير الرعاية الطبية والشهادة على بعض معجزات الحياة. لم أتمكن أبدًا من كبت الجانب الإنسان كليًا في كوني طبيبًا، لكنني كنت أذكّر نفسي بأن أبقى قويًا من أجل مرضاي.

ما وراء الحدود، بلا حدود

في عام 2009، أتيحت لي الفرصة لزيارة العراق لأول مرة بعد مغادرتي إياه. هبطت الطائرة في بغداد كمحطة مؤقتة قبل إكمال رحلتنا. كان من المؤلم بشكل لا يوصف أن أكون قريبًا جدًا من بغداد لكنني غير قادر على الخروج من المطار لرؤية حيي وأقاربي. كنا في طريقنا إلى محافظة السليمانية في إقليم كردستان، حيث كانت أطباء بلا حدود تدير بعض المشاريع منذ عام 2007. وبسبب الوضع الأمني المضطرب في العراق، قدمت أطباء بلا حدود الدعم لتسع مستشفيات عن بعد. وقد ذهبت إلى هناك لتدريب مقدمي الرعاية الصحية.

امتدت رعاية أطباء بلا حدود إلى ما هو أبعد من العلاج الجسدي. فقد كنا نولي الجانب النفسي الأولوية كجزء من دعمنا الشامل، وكان كذلك أولوية للطاقم ولا سيما الجراحين الذين شهدوا عن كثب ويلات الحرب على مرضاهم.

media:orange_logic_image:54abd8d1-ca3a-49ae-be28-d98faf8bdf9a
جلسة استشارة نفسية جماعية في مستشفى الجراحة التقويمية الذي تديره منظمة أطباء بلا حدود في عمان. كثيرًا ما كان الأطفال العراقيون من بين ضحايا أعمال العنف في العراق. وتمثل هذه الجلسات جزءًا أساسيًا من العلاج ومكملاً للعلاج الجراحي للبالغين والأطفال. الأردن، في مايو/أيار 2008.
Philippe Conti

موجة جديدة من المرضى

بعد أربع سنوات من رحلتي مع منظمة أطباء بلا حدود، اجتاح الربيع العربي المنطقة، وسرعان ما لم يعد مرضانا في المستشفى من العراقيين فحسب. ففي يونيو/حزيران 2011، استقبلت مريضنا السوري الأول، ليكشف عن تجربة مختلفة ووجه آخر للحرب.

بشكل مأساوي، كان العراقيون معتادين إلى حدّ ما على الضيق والضيم، بعد أن مروا بعدة حروب على مر العقود، وكثيرًا ما كانت قدرتهم على التحمُّل تُثير دهشتي. لكن على الجانب الآخر، كان المرضى السوريون في حالة صدمة هائلة. فقد أدى القصف العشوائي الذي تعرضوا له إلى زلزلة حالة معينة من السلام كانت سائدة من قبل.

شكّل التزامنا بدعم الجرحى العراقيين في عمّان ورعايتهم حجر الأساس في تكون القدرات والمعرفة في المجال لخدمة الجرحى الذين أتوا لاحقًا من البلدان الأخرى التي تعاني من الحروب، بما في ذلك اليمن.

NFI distribution in Mosul's Old City
مدينة الموصل القديمة غرب الموصل. تعرضت مدينة الموصل لأضرار مدمرة خلال القتال العنيف لاستعادة المدينة من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية. وعانى المدنيون من أشكال متعددة من الصدمات تراوحت بين الفرار من منازلهم إلى وقوعهم وسط القصف والقتال العنيف في الأحياء السكنية. العراق، في أبريل/نيسان 2008.
Sacha Myers/MSF

ما زالت قصة الفتاة الصغيرة ليمار عالقة في ذاكرتي، وهي من الناجين من تلك الفترة. كانت ليمار مصابة بجروح بالغة وتعاني من صدمة نفسية بسبب ويلات الحرب في سوريا، وكانت تحقق تقدمًا ملحوظًا في تعافيها. فقد ألهمتها مرونتها وتحمُّلها أن تصبح صوتًا للتفاؤل والنجاح. فمن خلال قوتها المتجددة ونشاطها، برزت ليمار كمنارة أمل للمرضى الآخرين في المستشفى.

لم تكن أي من المعاناة التي رأيتها حتى ذلك الوقت بهول ما خاضه العراقيون ما بين عام 2014، حين سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق واسعة من البلاد، وحتى عام 2017، عندما انتهت المعارك المسلحة لاستعادة السيطرة على هذه المناطق. فحين بدأ تدفّق المرضى من تلك المناطق إلى المستشفى، شهدتُ المدى الحقيقي للدمار الجسدي والنفسي الذي تخلفه الحروب، حيث كانت المعارك واسعة النطاق وطاحنة في أغلب المناطق وكانت تجري في الأحياء السكنية والأزقة المكتظة بالمدنيين العالقين.

صناعة مستقبل أفضل

لطالما كان تقديم المساعدة لأهل بلدي يشعرني بالكثير من الرضا. وقد واصلنا السعي لتحقيق التميز في الرعاية الطبية. ففي عام 2017، اعتمدنا الطباعة ثلاثية الأبعاد لإنشاء أطراف اصطناعية مخصصة، مما حقق تغييرًا جذريًا في حياة المصابين. فمثلًا، أصبح بإمكان صبي صغير أن يبري أقلام الرصاص بنفسه في المدرسة، ولم يعد يعتمد على معلمه في ذلك، وكذلك لا أنسى النساء اللاتي حققّن الدّخل المادي من خلال تعلم حرفة صنع قطع فنية جميلة بعد تعافيهن من إصاباتهن.

لأكثر من عقدين من الزمان، عانى قطاع الرعاية الصحية في العراق من وطأة الأزمات، وكان في حاجة ماسة إلى الإحياء والإعمار. يتوق العراقيون إلى نظام رعاية صحية فعال، نظام قادر على تقديم الرعاية الجيدة التي يستحقونها. أعتقد أنه يجب الآن أن تتضافر كل الجهود لبناء نظام صحي قوي في العراق.

في أعماق قلبي، أتوق للعودة إلى العراق يومًا ما. لا تزال الرغبة في الإسهام وبذل ما أستطيع لوطني وأهله قوة دافعة في داخلي، وقد وجدت العزاء في القدرة على علاج أبناء بلدي العراقيين داخل جدران مستشفى عمّان. هنا، كرّست نفسي لتقديم أعلى جودة ممكنة من الرعاية، وضمان حصول كل مريض على الاهتمام الذي يستحقه.

المقال التالي
العراق
تحديث حول مشروع 2 أبريل/نيسان 2024